الاعتقال الاحتياطي بين ضرورات البحث وقرينة البراءة
مقال من إعداد: الأستاذ نبيل البرومي
محامي متمرن بهيئة المحامين بالدار البيضاء
مقدمة:
لما كان الهدف من التحقيق الجنائي هو بلوغ الحقيقة. فضلا عن تجميع المستندات والحجج في ظل قرينة البراءة وحماية حقوق الدفاع.
وتكريس الضمانات القانونية لإجراءات المحاكمة العادلة.
فان النص التشريعي يظل عائق في ظل ملاحظة عملية بصدد التدابير والعقوبات السالبة للحرية حتى بعد بلورة ميثاق إصلاح منظومة العدالة.[1]
ليصبح موضوع ترشيد الاعتقال الاحتياطي من المواضيع التي أرقت على الدوام واضعي ومنفذي السياسة الجنائية، اذ استأثرت اهتمام كافة المنتسبين لمرفق العدالة وفي مقدمتهم هيئات الدفاع.[2]
لاسيما في ظل عدم اختلاف جل المهتمين ان المغرب كدولة تسعى للارتقاء إلى مصاف الدول المتحضرة على مستوى احترام حقوق الإنسان. [3].
ذلك ان الحرية حق أصيل في منظومة حقوق الإنسان؛ بل يكاد يكون اهمها على الإطلاق بعد الحق في الحياة.
ان وجود المتهم وهو يدافع عن حريته كي لا تمس، يظل حلقة أضعف في مواجهة المبررات القانونية والواقعية (الحيلولة دون الفرار، الحفاظ على النظام اعام، الحفاظ على الادلة) للإنتقاص منها.
ذلك ان الاعتقال الاحتياطي كتذبير استثنائي تسلب بموجبه الجهات المختصة حرية المتهم، [مؤقتا لمدة محدودة قابلة للتمديد وفقا لما قرره القانون في أماكن خاصة داخل المؤسسة السجنية او إلى ان تنتهي محاكمته بمقرر قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به..
وإن التذبير المشار اليه أعلاه ليس بحديث العهد وإنما كان تطبيقه في الحضارة المصرية القديمة، تشريع الهند البرهماتية، العصر الروماني وصولا إلى الحضارة الإسلامية وما استلهمته التشريعات الحديثة من الشرائع السالفة [4].
اما عن الإطار القانوني للاعتقال الاحتياطي في التشريع الوطني فإنه على نهج غيره من التشريعات المقارنة، منذ قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 وما صاحبها من تدخلات تحيينية بين التوسيع والتضييق من مجاله.
ليبلغ الرهان نحو القانون الحالي 22-01 [5]
والذي حاول تأطير الظاهرة القانونية الاجتماعية، الإنسانية، الحقوقية.
بنظام قانوني يحاول الحفاظ على التوازن المنشود بين ضرورة البحث وحرية الفرد كحق مقدس في جل المواثيق والنظم. [6]
وغني عن البيان ان اختيار موضوع المقالة سنلحظ مبرراته جلية من خلال استقطابه لمختلف المهتمين بمراحل المحاكمة العادلة وضرورات البحث في مختلف الأبعاد الحقوقية منها وكذا الهاجس الأمني وصولا إلى قيم العدالة والحريات كمبادئ عليا مرجوة من جل الأجهزة المكونة للمنظومة القضائية…
ولما حظي الموضوع بهذه الأهمية
لارتباطه الوثيق بالحريات والحقوق فضلا عن كون الإجراء أحد المظاهر المنتقدة للسياسة الجنائية لكون الإيداع المسبق صور من صور الادانة المسبقة.
هذا مع استحضار الضغوطات نحو العمل على تأكيد انخراط المغرب في منظومة تواكب البعد العالمي.
في ظل التقارير الدولية والتي أكدت محدودية الإصلاح سواء تعلق الامر بالتقرير الدولي الخامس والمتعلق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ثم التقرير السنوي للمكتب التنفيذ لحقوق الإنسان بالمغرب حول الوضع الحقوقي لسنة 2018.[7]
الامر الذي صاحبه العناية التشريعية الخاصة سواء من خلال النصوص المؤطرة او من خلال المواكبة التشريعية وصولا إلى أفق المسودة المراهن عليها من أجل عقلنة وترشيد الاعتقال الاحتياطي كتذبير استثنائي سيأثر على الضمانات الموازية لمؤسسة التحقيق.
مما يجعل طرح سؤال مركزي مشروع متمحور حول مدى تحقيق الموازنة المنشودة بين ضرورات البحث والتحقيق من جهة؛ ثم قرينة البراءة مع حق الفرد في الحريات من جهة اخرى؟ ام ان الأمر يمتد إلى حد التساؤل من جديد حول فعالية ومشروعية تواجد مؤسسة التحقيق جملة وتفصيلا؟.
وكمحاولة منا نحو الإجابة عن هذه الإشكالية المركزية فإننا ارتأينا مقاربة الموضوع؛ وفق منهج اسنباطي نستحضر بمعيته مناهج مساعدة منها الوصفي والتحليلي، المقارن … مع إبراز نقاط مقارنة لبعض الانظمة التشريعية. وذلك للوصول إلى ما من شأنه ان يزيل نوعا من اللبس والغموض عن المؤسسة القضائية موضوع التحليل ومدى تأثير الاعتقال الاحتياطي كتذبير تحت سلطة المؤسسة.
وللإجابة عن التساؤلات الفرعية المنبثقة عن الإشكالية المركزية.
فقد ارتأينا مقاربة الموضوع وفق تصور محوري ينطلق من عرض مؤسسة التحقيق بشكل موجز بصدد تكريس مظاهر المحاكمة العادلة والصعوبات التشريعية والواقعية لطبيعة الممارسة (محور أول) لنعرج بشكل أدق نحو الاعتقال الاحتياطي كتدبير متصادم مع قرينة البراءة (محور ثاني)
المبحث الأول: الضمانات القانونية المواكبة لمرحلة التحقيق
ان الإطار الدستوري والقانوني كانا أكثر جرأة من خلال رهن توافر شروط قيام المحاكمة العادلة على استقلالية الجهة القضائية عن الخصوم والمحافظة على مسافة مع باقي أجهزة التعيين والنقل والعزل سواء من خلال الدستور (الباب السابع والمتعلق بالسلطة القضائية) [8].
او من خلال تكريس ذلك عن طريق النظام الأساسي [9]. وكذا على مستوى القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية كتشريع متعلق بإجراءات المحاكمة العادلة طبقا لموجهات معيارية، تفترض فيها قرينة البراءة والمبادئ الدستورية والمرجعيات الكبرى الراسخة. بيد ان الإطار التشريعي (فقرة أولى) ظل محدودا في مواجهة خصوصية مرحلة التحقيق وضرورات البحث مع ضمانات المحاكمة العادلة (فقرة ثانية)
فقرة أولى: حول الإطار التشريعي
غني عن البيان ان تواجد مؤسسة التحقيق شكلت (على الاقل في مرحلة تاريخية مهمة لتحديث أساليب السياسة الجنائية) قفزة حقوقية لضمان الاستقلالية بين سلطة المتابعة وسلطة التحقيق ورصد بداية أسس المحاكمة العادلة وتجاوز معيقات مراحل البحث والاستنطاق الاولي من جهاز المتابعة.[10]
كما يعتبر التحقيق الاعدادي دعامة اساسية لحقوق الإنسان وركيزة مهمة في تحقيق المحاكمة العادلة إذ يعتمد عليها لإضفاء الشرعية على البحث لما توفره للمتهم من ضمانات.
وحيث ان تواجد مؤسسة قضائية في مواجهة النيابة العامة كطرف رئيسي في الدعوى العمومية (وان كان خصم شريف) والذي يبقى معه جهاز النيابة العامة طرف قوي في مواجهة الظنين لا سيما في ظل تواجد قرينة البراءة فضلا عن عدم تمكينه من أليات للبحث عن الادلة والقرائن للدفاع خلال مراحل البحث التمهيدي.
ولما كانت الحاجة إلى احترام مبدأ الشرعية الاجرائية.[11]
من خلال اتحاذ الإجراءات في حدود ضيقة. مع ضرورات مراعاة الحرية الفردية. خاصة تماشيا مع الحاجة الى توسيع نطاق حقوق الدفاع كركن أساسي في صرح المحاكمة العادلة.
فقد كان من الجدير ان يتم تمكين المؤسسة من اليات هادفة إلى تجهيز التحقيق من خلال مراحل التحقيق (استنطاق ابتدائي /تفصيلي) وفق استحضار قرينة البراءة ومبدأ الشرعية الاجرائية.
ذالك ان التحقيق الاعدادي والمؤطر بمقتضى النصوص 83 و92 و264 إلى 268 و470 و486 / 73/ 255256
من قانون المسطرة الجنائية.
لا سيما الفصول المتعلقة بتحديد حالات التحقيق الالزامي:
– في الجنايات: (الاحداث /الاعدام /مؤبد / الحد الاقصى 30 سنة)
بينما يبقى اختياريا متى كان التلبس بالجناية قائم وكانت القضية جاهزة للحكم.
واختياريا في الجنح مالم يوجد نص خاص كما هو الشأن بصدد المواد 255/256/257 من المسطرة الجنائية عندما يتصل الامر بحالتي الجرائم المرتبطة من جهة وتلك غير القابلة للتجزئة من جهة أخرى. [12]
اما خارج هذه الحالات؛ فإن التحقيق اختياريا مالم تكن القضية جاهزة وتعلق الامر بحالة التلبس حيث الاحالة الفورية طبقا للمادة 419.[13]
مما تكون معه مؤسسة التحقيق معززة بمجموعة من الضمانات القانونية لتفعيل المبادئ الدستورية والمرجعيات المتعلقة بالشرعية الاجرائية.
بيد ان خصوصية التحقيق تقتضي استحضار صعوبات واقعية وقانونية. تكاد تصطدم بها المبادئ الدستورية والتشريعية الراسخة كما هو الشأن بصدد الفصول 19/ 23 / 119 /120 من الدستور المغربي.
وكذا الفصل 1 من قانون المسطرة الجنائية.[14]
الامر الذي يقتضي معه إثارة الصعوبات المطروحة على الممارسة العملية.
فقرة ثانية: الصعوبات المطروحة على التحقيق
ان هامش ضرورات البحث واستحواذه على تدابير سالبة للحرية (أولا) في التعارض مع المبادئ الراسخة حول حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة (ثانيا).
اولا: هامش ضرورات البحث
ان القراءة الأولية للتوجهات المعيارية لتوقيع الاعتقال الاحتياطي كتذبير استثنائي وفق مقتضيات المواد 176 وما يليها من المسطرة الجنائية.
لما يقتضيه التحقيق لضمان جمع الادلة والتحريات ولو القائمة منها على الشبهة دون الحاجة إلى تقييمها [مهمة قضاء الحكم]
مرورا باستحضار خطورة الجريمة وهاجس الحفاظ على الادلة، سرية التحقيق….
لتبلغ حدا يطرح معه صداما حقوقيا عن طريق آلية الاعتقال الاحتياطي كتذبير ماس بالحرية في ظل قرينة البراءة والتي تحمل معنى شامل وموسع بحيث يندرج ضمن مكوناتها المساحة الزمنية والحق في النظر المنصف للقضية علاوة على المساواة بين الادعاء والدفاع وصولا إلى افتراض براءة المتهم وصيانة حريته باعتماد الشكلية المتطلبة قانونا. [15]
وهو ما يصطدم مع حقيقة الممارسة الواقعية نتيجة ضيق نطاق هامش الدفاع بدواعي السرية واتساع هامش المعايير المؤيدة للأمر بإيداع المتهم مؤقتا في السجن، والتي جاءت بحالات عامة في الصياغة التشريعية بما يصعب مراقبتها او الحد من تطبيقاتها الماسة بالحرية.
ثانيا: تصادم ضمانات المحاكمة العادلة مع خصوصية التحقيق
ان مؤسسة التحقيق وإن كانت جهة قضائية فهي مخول لها سلطة الاتهام فضلا عن كون المتابعة تقوم بالشبهة مادام ان جمع الادلة والتحريات مهمة قاضي التحقيق دون أن تمتد إلى تقييمها والتي تظل مهمة منوطة لقضاء الحكم
كما يبقى معه حق الدفاع والشرعية الاجرائية في حاجة إلى توسيع نطاقهما أثناء مراحل التحقيق على الرغم من استحضار مبدأ الفصل بين سلطتي المتابعة والتحقيق ضمانا لحماية المصالح فيما يحفظ ضمان سرية التحقيق.[16]
ذلك ان العدالة الجنائية وضمانات المحاكمة العادلة وإن امتد من مرحلة البحث التمهيدي الا أن التحقيق كمرحلة موالية يعتبر أكثر جزء مراهن عليه لتحديد مستقبل المحاكمة ووجاهتها ومآلها لذلك وجب توفير كل الضمانات الفعلية التي تحمي حق المتهم خلالها. [17]
لا سيما في ظل تمكين المؤسسة من تدابير مؤقتة سالبة للحرية وبموجهات وضوابط معيارية أكثر اتساعا خاصة في ظل استحضار مدد الاعتقال كما هي مبينة في الفصول 176/177 من المسطرة الجنائية. [18]
الامر الذي يكون معه من البديهي ان يتم تنزيل موجهات معيارية أسمى تنطلق من المرجعيات الحقوقية والكونية فضلا عن القيم الدستورية الراسخة بصدد مفاهيم دولة الحق والقانون من جهة وقيم العدالة والحريات من جهة أخرى
لا سيما في ظل التعزيزات الدستورية المستجدة وإقرار مجموعة من القيم المتصلة بحماية الحقوق والحريات وضمان مبادئ المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع كما هي مكرسة في المواثيق والنظم.
مبحث ثاني: تذبير الاعتقال الاحتياطي وأفق الخروج من الازمة
ان خصوصية التذبير الاستثنائي وارتباطه بحرية الأفراد يقتضي تبيان اطاره التشريعي وواقعه بشكل موجز (كفقرة أولى) وذلك قبل مناقشة التدابير المراهن عليها لتقليص نطاق التذبير لما له من انعكاسات سلبية على حرية الظنين كحق دستوري مقدس.
وذلك من خلال التعرض لبعض بنود مسودة مشروع المسطرة الجنائية (فقرة ثانية) فقرة أولى: تذبير الاعتقال الاحتياطي والممارسة
فقرة أولى: الاعتقال الاحتياطي بين النص والممارسة
ان الواقع المتعلق بالتذبير أثناء الممارسة يقتضي الانطلاق من المقاربة التشريعية للإعتقال الاحتياطي (فقرة أولى) قبل عرض الإشكالية المتعلقة بانعكاسات التدبير على وظيفة المؤسسات المتدخلة لاسيما المؤسسات الهادفة إلى الإصلاح والتهذيب.
اولا: حول الموجهات المعيارية لتوقيع الاعتقال الاحتياطي
ان الاعتقال الاحتياطي كتذبير استثنائي تسلب بموجبه الجهات المختصة حرية المتهم مؤقتا لمدة محدودة قابلة للتمديد [19]
كما جاء في المادة 159 وما يليها من قانون المسطرة الجنائية.
يقتضي منا تبيان اطاره التشريعي فضلا عن تحديد نطاق سلطات قاضي التحقيق في توقيعة.
هكذا جاءت المسطرة الجنائية في معرض التطرق للتذبير من خلال الفصول 142 / 159 160 فضلا عن بيان نطاقه الزمني والموضوعي من خلال المادة 176 /177 والمادة 217 بعده، من القانون المذكور أعلاه.
ومن خلال هذه الفصول يتبين ان الموجهات المعيارية يمكن اختزالها في المعايير التالية: ضرورات التحقيق، خطورة الجريمة والجاني، الحفاظ على الادلة والتحريات وصولا الى ضمانات الحضور والحفاظ على النظام بكل تجلياته.
وأمام اتساع نطاق حالات التوقيع الامر الذي طرح معه أزمة واقعية وحقوقية اصبحت تهدد وجود مؤسسة التحقيق ومدى سلامة الإبقاء عليها في ظل أفق تحديث ترسانة السياسة الجنائية. من جهة فضلا عن خلق معضلة الاكتظاظ والانفاق بصدد المؤسسات السجنية.
ثانيا: واقع الاعتقال الاحتياطي وفق الممارسة العملية
ان حصر واقع الاعتقال الاحتياطي يقتضي مناقشة شق منه بلغة الأرقام وتأثيره على سعة مؤسسات الإصلاح والتهذيب (1) وصولا إلى انعكاس الازمة على الوظيفة الردعية الإصلاحية من جهة وعلى ضمانات المحاكمة العادلة وقرينة البراءة من جهة اخرى (2)
1/ الاعتقال الاحتياطي بلغة الأرقام
ان ارتفاع منسوب الاعتقال الاحتياطي قد بلغ أرقام قياسية سواء من خلال اجراء مقارنة زمنية بين فترتي العشر سنوات الأخيرة:
ذلك ان عدد المعتقلين احتياطيا إذا كان يبلغ 91.744 سنة 2013 فإن سنة 2016 بلغ عدد المعتقلين احتياطيا 102538 اي بزيادة 10794 وهي أرقام مهولة في ظل الفترة الزمنية الوجيزة [20]
كما ان عدد المعتقلين احتياطيا حسب الوضعية الجنائية عرف ارتفاعا على مستوى النسبة المئوية خلال فترة 2016 و2020 من نسبة 40,45 % إلى 45,70 % [21]
وعلى الرغم من تراجع الاعتقال الاحتياطي بشكل طفيف بين السنوات المكونة للعشرية موضوع الاحصائيات إضافة الى إلى ارتفاع الاعتقال الاحتياطي خلال السنوت الاخيرة للعشرية الزمنية حتى من خلال الإحصائيات النوعية على مستوى درجات المحاكمة (المحاكم الابتدائية؛ محاكم الاستئناف،
محكمة النقض) [22]
لكل هذه الاعتبارات وتبعا لما تم التوصل اليه بناءا على الاحصائيات الحديثة من قبل الجهات المختصة.
وعلى الرغم من استحضار فترة الجائحة وحالة الطوارئ وما فرضه من تزايد منطقي للاعتقال الاحتياطي.
فإنه خارج ذلك المعطي يبقى المغرب مصنف ضمن المجموعة الثانية عالميا والتي ترتفع في اطارها حالات وأرقام الاعتقال الاحتياطي. وهي أرقام ونتائج مقلقة لها انعكاسات أكثر سلبية ستظهر للمهتمين والمتدخلين في المجال من خلال التأثير السلبي على نجاعة المؤسسات المعنية [23]
2/ تأثير الاعتقال الاحتياطي على المؤسسات والوظائف المنوط بها
● على مستوى مؤسسات الإصلاح والتهذيب
ان مظاهر تأثر المؤسسات بالتزايد المستمر والتفعيل بناءا على الترسانة الحالية للتشريع الاجرائي الموجه للسياسة الجنائية يظل أكثر تجليا مما سبق مناقشته بصدد تهديد حق الحرية الأكثر قداسة في المنظومة الحقوقية الكونية.
ذلك ان تذبير الاعتقال الاحتياطي فضلا عن اثقاله لكاهل المؤسسة على مستوى الإنفاق المالي وكذا محدودية الطاقة الاستعابية إلى ان التأثير لمقلق يجد أبعاده المركبة من خلال طرح اشكالية الوظيفة الإصلاحية والردعية للمؤسسات المعنية.
الامر الذي جعل نقاش ترشيد الاعتقال الاحتياطي مطلبا اساسية على مائدة المسودة المراهن عليها لتقليص النطاق لفائدة تذابير وأساليب بديلة عن المساس بحرية الأفراد وقرينة البراءة. [24]
وغني عن البيان ان تفصيل الانعكاسات يجد عنوانه في تهديد الأمن القانوني والقضائي.
● على مستوى جهاز التحقيق
ان الأبعاد الملازمة للاستعمال الموسع للتذبير موضوع المناقشة مادامت قد عمدت الى المساس بقرينة البراءة وتقليص حق الدفاع ت مانتي عنها مت طرح فرضية تهديد حتمي للمداخل الدستورية للأمن القانوني والقضائي المنشودين.
مما دفع إلى طرح تيارا ت تنادي بضرورة التخلي عن مؤسسة التحقيق بشكل كلي او جزئي رغبة في حصر حالات الاعتقال الاحتياطي وضمانا لتحاوز الصلاحيات المحدودة للمؤسسة في مواجهة سلطة المتابعة.
ليبقى الرهان مطروحا من جديد على افق ورهانات السياسة الجنائية الحديثة والهادفة إلى الاعتماد على أليات بديلة عن التذبير والتي ستلعب دورا محوريا في التقليل من التأثيرات السلبية للتذبير في ظل الإطار التشريعي الحال وواقع الآليات المقررة لتنفيذ السياسة الجنائية.
فقرة ثانية: التوجهات الراهنة للسياسة الجنائية حول تدبير الازمة
ان تجاوز معبقات بناء مقومات المحاكمة العادلة فضلا عن ضمان حقوق الدفاع وضمانات حماية الأمن القانوني والقضائي الضروريين لحماية هرمية التشريع وتكريس القيم الدستورية والكونية فرض ضرورة فرض حصة الأسد في مسودة مشروع المسطرة الجنائية الحالي وقد كانت اهم الآليات المراهن عليها تتجسد في خلق بدائل لتذبير الاعتقال الاحتياطي وفي هذا الصدد نلامس حيز لا بأس به لتوسيع نطاق المراقبة القضائية (البند الأول) فضلا عن مستجد مهم بصدد تفعيل وتكريس مقومات آلية القيد الإلكتروني (البند الثاني)
البند الاول: المراقبة القضائية وتدعيم قرينة البراءة
إذا كانت الغايات المتوخاة من المراقبة القضائية يتسع نطاقها ليشمل تدعيم قرينة البراءة فضلا عن تلافي سلبيات الاعتقال الاحتياطي وصولا إلى المحافظة على السير العادي لاجراءات التحقيق فإن مضمون المراقبة القضائية يقتضي الانضباط للالتزامات الايجابية (أولا) فضلا عن الامتناع عن القيام ببعض الأعمال (ثانيا)
أولا: في السلوك الإيجابي
بالرجوع إلى مقتضيات م 161 من مشروع المسطرة الجنائية نجد المشرع قد وضع على عاتق الظنين مجموعة من الواجبات نذكر منها:
- الاخطار بصدد التنقل خارج الحدود
- الالتزام بالمثول دوريا أمام مصلحة او السلطة المعينة.
- الخضوع للمراقبة المتعلقة بالنشاط المهني.
- ….
كما يوسع نطاق هامش السلطة التقديرية إزاء تقدير الضمانات العينية والشخصية.
ثانيا: في الالتزامات السلبية
على غرار الالتزامات ذات الطابع الإيجابي جاءت المادة 161 من المشروع السالف الذكر بسرد تفصيلي لكل الالتزامات الملفات على عاتق الظنين والتي بلغت 8 التزامات والمحددة بشكل موجز في: عدم مغادرة او تغيير النطاق المكاني المحدد للمتهم وكذا الامتناع عن مباشرة الأعمال المعنية كالمتعلقة بنشاط يندرج ضمن الأنشطة والأعمال المنوية في إطار تحمل الالتزامات المالية (إصدار الشيكات مثلا).
عموما يتبين ان تذبير المراقبة القضائية يظل اسلوبا بديلا عن الاعتقال الاحتياطي لاسيما وانه يحد من نطاق حالات الاعتقال الاحتياطي فضلا عن كونه يتضمن في طياته مجموعة من الآليات والتي تسمح بمراقبة نطاق تحرك الظنين بما يسهم في الحفاظ على مسار التحقيق دون أن يمس بحرية الأفراد وقرينة البراءة كحق دستوري مقدس.
بيد ان هذا التذبير لم يراهن عليه مشروع المسطرة الجنائية وحده لتجاوز معيقات الاعتقال الاحتياطي بل نجد تذبير أكثر حداثة وانسجام مع التطور الرقمي الذي عرفه العالم المعاصر ويتعلق الامر بالمراقبة الإلكترونية.
البند الثاني: قيد المراقبة الإلكترونية
ان قيد المراقبة الإلكترونية كنظام عرف تطبيقات هامة في التشريعات والانظمة الحديثة المقارنة [25]
ويمكن حصر مفهومه على كون التذبير يقوم على ترك الشخص موضوع الملاحظة حرا مقابل استعمال السوار الإلكتروني. [26]
ويعتبر هذا الاخير من الآليات التي أثارت الاهتمام بصدد السياسة الجنائية واستأثرت اهتمام كافة المتدخلين في مسار أنسنة الانظمة الجنائية، كأسلوب بديل عن الاعتقال الاحتياطي.
هذا التذبير كان محل اهتمام تشريعي في إطار عملية التحيين المراهن عليها من خلال القانون رقم: 23 -03. (ثانيا)
بيد ان هذا النظام عرف تطبيقات كان المشرع الفرنسي سباقا لها على غرار الانظمة التشريعية المقارنة في الانظمة الانجلوساكسونية [27]
كآلية لتنفيذ الجزاءات السالبة للحرية وكتذبير بديل عن الاعتقال الاحتياطي. (أولا)
اولا: المراقبة الإلكترونية في التشريع الفرنسي
لقد اخذ التذبير المشار اليه في التشريع الفرنسي تطبيقات هامة في صيغ ثلاث مختلفة من حيث الطبيعة
هكذا نجده اسلوبا في تنفيذ الجزاءات السالبة للحرية لاسيما القصيرة الأمد منها، ثم في صيغة العقوبة في مقام ثاني [28]
وأخيرا الصيغة الثالثة وهي التي تهمنا في مقامها هذا بصدد موضوع التذبير المتعلق بتأمين المراقبة القضائية.
ذلك ان المشرع الفرنسي قد استحدث شروط قانونية بصدد المراقبة الإلكترونية، والتي تتلخص في تحديد النطاق من حيث الأشخاص والعقوبة كما عهد للهيئات القضائية صلاحية تقرير التذبير ويتعلق الامر على وجه الخصوص قاضي التحقيق وقاضي الحريات والاعتقال.[29]
ثانيا: أفق المراقبة الإلكترونية في التشريع المغربي
لقد شكل اختيار المشرع المغربي بصدد تبني نظام المراقبة الإلكترونية خطوة جريئة بصدد تحديث وانسنة المرحلة السابقة على المحاكمة وفق لما جاء في آخر صياغة لمشروع تعديل قانون المسطرة الجنائية، وذلك من خلال المادة 161 وما يليها.
اما بخصوص مضمونه والذي يتجسد من خلال المواد 174- 1 إلى حدود المادة 174 – 3 اذ يمكن إيجاز خصوصية تفعيله في العناصر الاتي بيانها:
1/ من حيث النطاق:
ظل محصورا بصدد الرشداء على خلاف القانون الفرنسي والذي امتد نطاقه الشخصي إلى الاحداث
2/ من حيث الجهة المشرفة:
كان من الطبيعي ان يكون من نطاق اختصاص تطبيق النظام المذكور للجهات القضائية السابقة على مرحلة المحاكمة بشكل يتماهى إلى حد مع النموذج الفرنسي. [30]
ليكون التذبير من صلاحية النيابة العامة في شخص وكيل الملك والوكيل العام حسب طبيعة الجريمة وأفعال المتابعة إضافة الى مؤسسة قاضي التحقيق. [31]
3/ على مستوى اسلوب التنفيذ
ان تطبيق التذبير يتجسد أساسا في وضع جهاز على جسم الظنين يخول من خلاله مراقبة تنفيذ الإجراءات وغني عن البيان ان العملية تتم من قبل ذوي خبرة فضلا عن ضرورة انجاز محضر بذلك [.32]
وفي ختام هذا العمل المتواضع والذي حاولنا في إطاره إبراز نقاط جد موجزة حول مناقشة معضلة الاعتقال الاحتياطي كأزمة كان منطلقها تشريعيا في ظل المفاهيم الفضفاضة ان صح القول والمتعلقة بضرورات البحث، حماية الادلة والنظام العام، ضمانات الحضور وخطورة الجاني…..
لتبلغ الممارسة العملية اوج الازمة في الاستعمال الواسع للتذبير الذي كان من المفترض امه استثنائية بصريح عبارات المسطرة الجنائية وباجماع فقهي للمهتمين والمتدخلين بضمانات المحاكمة العادلة والشرعية الاجرائية وما صاحب هذه الازمة من تداعيات سلبية على نجاعة المؤسسات المعنية لاسيما التحقيق ومؤسسات الإصلاح والتهذيب.
ليبقى الرهان مطروحا على الإصلاحات المرجوة من الترسانة التشريعية فضلا عن الاستعمال المعلن والمحدود في إطار الممارسة العملية انسجاما مع المبادئ والمرجعيات الكبرى الراسخة حول حقوق الدفاع وضمانات المحاكمة العادلة.
1- يعد ورش اصلاح منظومة العدالة مهما في مقاربة التوجهات الكبرى للسياسة الجنائية وأفق تحديث وتجويد قطاع العدالة لارتباطه الوثيق بالحريات والحقوق.
راجع بهذا الخصوص:
مقال استقلال السلطة القضائية (المسار والنتائج) مصطفى الرميد وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان
وزير العدل سابقا. منشور بمجلة المحامي عدد 70 دجنبر 2017 ص 131415.
2- منعم اليزيدي، التعويض عن الاعتقال الاحتياطي كالية لترشيد السلطة التقديرية لقاضي التحقيق، مقال منشور بمجلة المنازعات الجنائية دراسة معمقة في القواعد الاجرائية عدد 28 ص 247248
3 -حسن الفطواكي، حقوق الدفاع في قانون المسطرة الجنائية، مقال منشور بمجلة المحامي عدد 17 ص 123.
4- لغدش ميلود سلطة القاضي الجنائي في تقدير وسائل الاثبات ن.م ص 77
4 راجع بهذا الصدد عبد الفتاح بن الحسين السياسة الجنائية في الاعتقال الاحتياطي. م.س
5- ظهير شريف رقم 1.02.255 والصادر بتاريخ 25 من رجب 1423(3اكتوبر 2002) بتنفيذ القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية.
6 -اذ ينص الدستور من خلال الديباجة على سمو المواثيق الدولية والمصادق عليها من قبل الدولة المغربية.
ويتعلق الامربالاتفاقيات الأساسية في مجال حقوق الإنسان التي يعد المغرب طرفا فيها، من بينها الاتفاقيات العامة والذي يشمل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية الاجتماعية والثقافية والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والبروتوكول الاختياري الأول الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
راجع بهذا الخصوص:
- زهرة الهياض، الحريات العامة في المغرب، م.س
7- عادل المحفوظي، ضمانات المتهم أثناء مرحلة التحقيق الاعدادي دراسة عملية معمقة، م.س ص / 192 -198
8- يتعلق الأمر بالفصل 107 الذي كرس جهاز السلطة القضائية واستقلاليته عن باقي السلط ثم الفصل 112 كإطار عام للنظام الأساسي للقضاة.
إضافة الى اليات الحماية الدستورية لحقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة من خلال الفصول 117/ 118/119 والذي يعتبر هذا الاخير بمثابة صمام الامان لحماية قرينة البراءة.
9- يتعلق الأمر بالظهير الشريف رقم 41.16.1 صادر في 14 من جمادى الآخرة 1437
)24 مارس 2016) تنفيذ القانون التنظيمي رقم 13.106 المتعلق
1 بالنظام الأساسي.
10- راجع بهذا الصدد محمد احذاف، شرح قانون المسطرة الجنائية، الجزء الثاني (التحقيق الاعدادي) طبعة 2018 مطبعة سجلماسة، مكناس.
11- عبد الفتاح بن الحسين السياسة الجنائية في الاعتقال الاحتياطي، ط.2022 دار السلام والنشر؛
12- للمزيد من التفصيل حول الحالات التحقيق الاعدادي راجع بهذا الخصوص، محمد احذاف، شرح قانون المسطرة الجنائية م.س.ص 120 وما يليها.
13- تنص المادة 419 من قانون المسطرة الجنائية على ما يلي:
تحال القضية على غرفة الجنايات على النحو التالي:
1 -بقرار الاحالة الصادر عن قاضي التحقيق.
2- باحالة الوكيل العام للملك طبقا للمادتين 49 و73 من هذا القانون
3- باحالة من الغرفة الجنحية عند إلغاء قرار عدم المتابعة الصادر عن قاضي التحقيق.
-14 يتعلق الأمر بأحد اهم ركائز حقوق الدفاع وركن من أركان المحاكمة العادلة. وهو قرينة البراءة والتي تستهل به المسطرة الاجرائية للمحاكمة.
-15عمر بنيطو؛ المحاكمة العادلة بين المواثيق الدولية والقانون المغربي، مقال منشور بمجلة المحامي عدد دجنبر 2017.ص 87- 100.
-16 ان الشرعية الإجرائية هي القاعدة الثانية من قواعد الشرعية الجنائية وهي تشترك مع باقي حلقاتها في اشتراط أن يكون القانون هو المصدر لكل إجراء يسمح بالمساس بالحرية أو إنتهاك الحقوق فلا يجوز القيام باي إجراء ضد المتهم أو إخضاعه لأي إجراء من إجراءات المحاكمة، لم يكن منصوصا عليه في قانون المسطرة الجائية
راجع بهذا الصدد احمد الخمليشي؛ شرح قانون المسطرة الجنائية م.س
17- حاتم أنور؛ الدفاع عن حقوق الدفاع، مقال منشور في مجلة المنازعات الجنائية عدد 28 ص 67- 70.
18- ينص الفصل 176 من قانون المسطرة الجنائية على أنه:
” لا يجوز في القضايا الجنحية ان يتجاوز الاعتقال الاحتياطي شهرا واحد؛ إذا ظهرت عند انصرام هذا الأجل ضرورة استمرار الاعتقال جاز التمديد بأمر…. دون تجاوز التمديد مرتين لنفس المدة.
بينما انصب الفصل 177 على أنه لا يمكن أن يتعدى أمد الاعتقال الاحتياطي شهرين في الجنايات…. غير انه إذا تبين ضرورة استمرار الاعتقال أمكن التمديد بأمر معلش دون تجاوز حدود خمس مرات ولنفس المدة.
19 – عبد الفتاح بن الحسين، السياسة الجنائية في الاعتقال الاحتياطي، الطبعة الأولى 2022 ص 240-247.
20- حسن هروش، قراءة في بعض مضامين مسودة المسطرة الجنائية مقال منشوربمجلة المحامي العدد 70.ص 117118
21 -المصدر إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط 2017
22- المصدر إحصائيات كتابة النيابة العامة. 20192020
-23 عبد الفتاح بن الحسين السياسة الجنائية في الاعتقال الاحتياطي، م.س 240ص 251
-24 منعم اليزيدي التعويض عن الاعتقال الاحتياطي كألية لترشيد السلطة التقديرية لقاضي التحقيق، م.س ص 258259.
-25 المذكرة التقديمية لأخر نسخة من مسودة مشروع المسطرة الجنائية. [مشروع قانون رقم 03.23 لتغيير وتتميم قانون عدد 22.01] موقعة: بتاريخ :03 62024]
-27 إذ يرجع تاريخ ظهوره للنظام الانجلوساكسوني لا سيما في ظل تشريع الولايات المتحدة عام 1979 ليمتد إلى باقي القوانين الأوربية (إنجلترا، إيطاليا، هولاندا..)
راجع بهذا الخصوص: عبد الفتاح بن الحسين، السياسة الجنائية في الاعتقال الاحتياطي، م.س.
29-alami drissi machichi, procédure pénale, rabat ,1981Jean Claude soyer, droit pénal et procédure pénale, libraire général de droit
et de jurisprudence,10 édition, Paris,1993.
30 -Papatheadoros Théodore, le placement sous surveillance Électronique en
droit pénal comparé, Rev pén et de dr pén,1999
راجع بهذا الخصوص: –
Mohamed alami drissi machichi, procédure pénale, rabat ,1981.
Étienne bloch, le contrôle judiciaire un instrument difficile à juger, gaz pal,
n2 1970
ean Claude soyer, droit pénal et procédure pénale, libraire général de droit
et de jurisprudence,10 édition, Paris,1993.
32- عبد الفتاح بن الحسين، السياسة الجنائية في الاعتقال الاحتياطي؛ م.س ص 247-248